فصل: مسألة باع سلعة، فقال البائع بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار وعارضه المشتري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة باع سلعة وادعى البائع أو المبتاع فيها الخيار:

ومن كتاب جاع فباع امرأته:
وسألته عن رجل باع سلعة، وادعى البائع أو المبتاع فيها الخيار، قال: يلزمهما البيع، وقولهما باطل، وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هكذا وقع في هذه الرواية، وادعى البائع أو المبتاع، وسقط الألف في أصل السماع، وكذلك هي ساقطة في سماع أصبغ، وفي سماع أبي زيد، وثبوتها وهم؛ إذ لا يأتي على ثبوتها الجواب، وذيل أصبغ في سماعه بعد هذا روايته هذه، عن ابن القاسم بكلام فيه إشكال، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في ذلك الموضع إن شاء الله، وبالله التوفيق.

.مسألة يأخذ الثوبين من الرجلين ثوب أحدهما بعشرة والآخر بخمسة على أنه فيهما بالخيار:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب يشتري الدور للتجارة قال: وسئل ابن القاسم عن الرجل يأخذ الثوبين من الرجلين؛ ثوب أحدهما بعشرة، والآخر بخمسة، على أنه فيهما بالخيار، فردهما وقد خلطهما، فتداعيا في الأجود، فقال: إن نص لكل واحد منهما ثوبه حلف وبرئ إليه منه، وإن قال: لا أدري أيهما لهذا، ولا أيهما لهذا، غير أن هذا لأحدهما، إنما أخذت ثوب هذا بعشرة، وثوب الآخر بخمسة، نصهما نصا، ولست أدري أي الثوبين ثوب هذا من ثوب هذا، فإنه يقال له: قد ضمنتهما جميعا بخمسة عشر دينارا، فإن شئت فادفع إلى أحدهما أيهما شئت الثوب الرفيع، وأعط الآخر ثمن الثوب الذي أقررت به، فإن أعطى الثوب الرفيع الذي كان يزعم أنه أخذ منه ثوبه بعشرة، دفع إلى الآخر خمسة دنانير وبرئ، فإن أعطى الثوب الرفيع الذي أخذ ثوبه بخمسة احتياطا على نفسه، وخوفا من أن يكون ثوبه، غرم لصاحب الثوب الآخر العشرة التي أقر أنه أخذ ثوبه بها. قال: وإن قال: لا أدري أيهما ثوب هذا، ولا ثوب هذا، ولا أدري أيهما أخذت ثوبه بخمسة، قيل له: اغرم إلى كل واحد منهما عشرة، وشأنك بثوبيك؛ لأنك قد أقررت أنك قد أخذت من أحدهما ثوبا بعشرة، فلما ادعياه جميعا، ولم تنص لأحد منهما ثوبه، فتبرأ بذلك من ضمانه باليمين، ولا أنت نصصت كل واحد منهما في دعواهما حتى يجعل صاحب الخمسة أحدهما، فتبرأ مما ادعى عليك من الفضل مع يمينك، فكلا دعواهما في عشرة عشرةٍ، وأنت غير مكذب لهما؛ إذ لا تنص أيهما ادعى أكثر من حقه فتحلف وتبرأ.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا نص لكل واحد منهما ثوبه، يحلف ويبرأ إليه منه صحيح؛ لأنه مؤتمن لكل واحد منهما، فالقول قوله فيما يقر أنه قبض منه، فإن نكل عن اليمين حلف كل واحد منهما، وأخذ منه ما دفع إليه به ثوبه، وأما إذا تداعيا في الأجود، ولم يعلم المشتري لمن هو منهما، وعلم بما دفع إليه كل واحد منهما ثوبه، فقال: إنه يضمن الثوبين بالثمنين، ويكون له أن يعطي الثوب الأجود لمن شاء منهما، ويعطي الآخر ما أقر أنه دفع إليه به ثوبه بعد يمينه، وإن نكل عن يمينه حلف الآخر وأخذ منه عشرة.
وقال: إنه إذا لم يعلم لمن هو منهما، ولا علم ثوب من كان منهما أكثر ثمنا من ثوب الآخر؛ أنه يضمنهما جميعا، ويعطي لكل واحد منهما أكثر الثمنين، ولم يقل: إن له أن يعطي الثوب الأجود لمن شاء منهما، كما قال في المسألة الأولى، ولا فرق بين المسألتين.
له أيضا إن شاء أن يعطي الثوب الجيد لمن شاء منهما، ويعطي الآخر الأكثر من الثمنين، ولا حجة لواحد منهما في ذلك عليه؛ لأن كل واحد منهما يدعي أن الثوب الجيد ثوبه، فإذا أعطاه إياه لزمه، وإن أعطى الآخر أكثر الثمنين لزمه أيضا، ولم يكن له كلام.
ولابن كنانة في المدنية أنهما إذا تداعيا في أحدهما، وجهل لمن هو منهما، يحلفان جميعا على الثوب الذي تداعيا فيه، ويقتسمانه فيما بينهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر؛ كان الثوب لمن حلف منهما، وقد برياه من الثوب الآخر، فليذهب به حتى يطلب على وجهه.
وسحنون في نوازله من كتاب القراض، في الذي يأخذ من الرجلين مالا قراضا، ويشتري بمال كل واحد منهما سلعة في إحداهما ربح، وفي الثانية وضيعة، فتداعى صاحبا المال في السلعة التي فيها الربح، وجهل هو بمال من اشتراها منهما، أنه لا ضمان عليه لهما، وتكون السلعة التي تداعيا فيها بينهما بعد أيمانهما، وذلك نحو قول ابن كنانة، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد، من الكتاب المذكور: إنهما إن شاءا أن يضمّناه أموالهما، ويتركا له السلعتين؛ فعلا، وإن شاءا أن يأخذا السلعتين جميعا، ويعطي كل واحد منهما رأس ماله، ويعطي المقارض ربحه، وهذا على أصله في هذه المسألة، وسنتكلم على مسألتي القراض المذكور في موضعهما إن أعاننا الله على الوصول إليهما برحمته وفسحته في الأجل، وهو الموفق.

.مسألة يشتري الغنم وفيها شاة بها علة فيقول المشتري أنا بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام:

ومن كتاب المكاتب:
قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتري الغنم، وفيها شاة بها علة، فيقول المشتري: أنا بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام، فإن صحت فهي لي، وإن لم تصح رددتها بما يصيبها من الثمن، فقال: هذا بيع غير جائز؛ فقلت له: ولم؟ قال: لأنه لو اشترى شاة واحدة عليلة على أنها له إن صحت إلى عشرة أيام، وإن لم تصح ردها لكان بيعا مفسوخا غير جائز. قيل له: فإنها غير عليلة، إلا أنه استثنى الخيار في شاة منها أياما، فقال: وهذا أيضا غير جائز. قلت: ولم كرهت هذا؟ قال: لأنه لو اشترى شاة، إن حبسها تم البيع بجميع الثمن الذي اشتريت به الغنم كلها، وإن ردها بالقيمة، والقيمة لا تعرف حتى تقوم الشاة والغنم، فكأنه لا يدري إن رد الشاة بكم تبقى عليه الغنم الباقية، فهي أحيانا بجميع الثمن، وأحيانا بثمن لا يدري كم هو.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه فساد البيع عنده بما لا مزيد عليه من أن المبتاع لا يدري بكم تبقى عليه الغنم بعد رد الشاة العليلة بما يصيبها من الثمن إن ردت، وبأن الشاة العليلة لا يجوز شراؤها على أنها إن صحت إلى عشرة أيام لزمه البيع فيها، ولا على أنه فيها بالخيار عشرة أيام، وإن كانت صحيحة، يريد من أجل أن الخيار في الشاة لا يجوز إلى هذا الأمد، وأحسب أن أبا إسحاق التونسي ذهب إلى أنه بيع جائز على القول بأن جمع الرجلين سلعتيهما في البيع جائز؛ لأن جملة الثمن معلوم، وما ينوب كل واحد منهما مجهول، وكذلك هذه المسألة، جملة الثمن فيها معلوم، وما ينوب باقي الغنم إن ردت الشاة مجهول، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن الفساد فيها من وجهين؛ أحدهما: الجهل بما تبقى به الغنم عليه من الثمن إن ردت الشاة، والثاني: هو شراؤه هذه الشاة العليلة على أنها إن صحت إلى عشرة أيام لزمه البيع فيها، وهذا لا اختلاف في أنه لا يجوز، وإذا جمعت الصفقة الواحدة ما يجوز وما لا يجوز لم تجز، فكيف إذا جمعت ما لا يجوز، وما يختلف في جوازه؟ وإنما كان يجوز هذا البيع على ذلك المذهب لو اشترى الغنم على أنه بالخيار في شاة منها اليوم واليومين، بين أن يأخذها أو يردها بما ينوبها من الثمن، أو على أن البائع يأخذ منها شاة بما ينوبها من الثمن، وبالله التوفيق.

.مسألة اشترى الرجل السلعة في الحيوان أو غيره على أنه بالخيار إلى أربعة أشهر وقبضها:

من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: وقال ابن القاسم: إذا اشترى الرجل السلعة في الحيوان أو غيره على أنه بالخيار إلى أربعة أشهر وقبضها، واشترط عليه النقد أو لم يشترط عليه فيها نقدا، فماتت بعد، فمصيبها من البائع؛ لأنه وإن كان فاسدا، فإن البيع لم يكن تم فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن البيع الفاسد إنما يدخل في ضمان المشتري بالقبض إذا لم يكن فيه خيار، والضمان من البائع في بيع الخيار إذا كان صحيحا، فكيف إن كان فاسدا، وبالله التوفيق.

.مسألة يشتري قرية يشترط البائع الخيار للمشتري ثلاث سنين أو أربعا:

ومن كتاب نوازل سئل عنها سحنون:
وعن الرجل يشتري قرية أو دارا، يشترط البائع الخيار للمشتري ثلاث سنين أو أربعا مما لا يجوز فيه الخيار من طول الوقت، فبنى المشتري وغير ببناء، أو غرس في هذه السنين التي جعلا فيها الخيار، هل يكون في ذلك فوت؟ فقال: إذا كان الخيار للبائع على المشتري، فلا يكون ما بنى في الخيار فوتا ولا ما هدم، والبائع يرتجعها، والبيع فيها منقوض. قيل له: فهل يرجع عليه المشتري بقيمة ما بنى؟ فقال: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه فعل ما لا يجوز له؛ لأنه لم يكن له ليبني فيها حتى يمضي أمد الخيار الذي جعلاه بينهما، ولا يأخذه إلا منقوضا.
قيل له: فإن بنى بعدما خرج أمد الثلاث التي جعلا إليها الخيار؟ قال: يكون هذا الذي بنى فوتا، ويرجعان جميعا إلى القيمة يوم خرج وقت الخيار، وقال: وكذلك إن اشترى جارية بالخيار أياما، يجوز له، واشترط النقد ثم لم يعلم بمكروه ذلك حتى خرجت أيام الخيار، وحتى فاتت الجارية بنماء أو نقصان، إنما يرجعان إلى قيمتها يوم خرجت أيام الخيار؛ لأنه كان له حينئذ صار ضامنا، وكذلك تكون المصيبة من البائع حتى تمضي أيام الخيار؛ لأنه أدخل في الخيار شرطا يفسد البيع باشتراط النقد.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح بين على ما قال في المدونة وغيرها: إن الخيار إذا كان للبائع والبيع فاسد إما بشرط النقد فيه، وإما بأن يكون أمده بعيدا، لا يجوز الخيار إليه، أو بما سوى ذلك مما يفسد البيع، فلا يكون ما أحدثه المشتري في أيام الخيار فوتا في البيع الفاسد، كما لا يكون إذا لم يكن في البيع فساد اختيارا منه للبيع، ولا يكون له فيما بنى إلا قيمته منقوضا؛ لأنه متعد بالبناء فيما لا خيار له فيه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس لعرق ظالم حق»، وإنما يكون ذلك تفويتا له إذا فعله بعد انقضاء أيام الخيار، وتكون القيمة فيه يوم انقضت أيام الخيار؛ لأن بيع الخيار إنما يتم حين يمضي لا حين يعقد، وبالله التوفيق.

.مسألة باع من رجل جارية فلم يقبض منه الثمن وخرج في سفر:

وسئل عن رجل باع من رجل جارية، فلم يقبض منه الثمن، وخرج في سفر، وقد كان المشتري بالخيار ثلاثا، فمرضت الجارية فلم يأت السلطان، ولم يشهد أنه لا يريد أخذ الجارية حتى ماتت بعد عشرة أيام، قال ابن القاسم: إذا قبض المشتري الجارية والخيار له، ثم أقامت في يديه بعد وقت الخيار، ولم يشهد على القبول ولا الرد؛ أن كونها في يديه رضا منه بها. قال سحنون: وهذا في وخش الرقيق.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من أن السلع المبيعة بالخيار إذا كانت بيد المبتاع والخيار له، فلم يردها حتى مضت أيام الخيار، ولا أشهد على ردها، فقد لزمته ودخلت في ضمانه بانقضاء أيام الخيار، كما أنها إذا كانت بيد البائع والخيار له حتى انقضت أيام الخيار، ولم يشهد على إمضائها، فقد بطل البيع وبقيت ملكا له، وقول سحنون: وهذا في وخش الرقيق صحيح، يريد إذ لا مواضعة فيها بعد زوال الخيار، فيكون الضمان فيها من البائع، وبالله التوفيق.

.مسألة اشترى منه سلعة فاختلفا في وقت شرط الخيار:

من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب القضاء العاشر قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عمن اشترى سلعة، فادعى البائع أنه شرط الخيار حين باع، وادعى المشتري أنه شرط الخيار حين اشترى، قال: البيع بينهما ثابت لازم لهما، والخيار ساقط عنهما. قال أصبغ: ويحلفان جميعا، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا فهو ذلك، فإن حلف واحد ونكل الآخر، فالقول قول الحالف مع يمينه، ولا أبالي بأيهما بدأ في الحكم باليمين، وأعجب إلي أن يبدأ المشتري هاهنا؛ لأنه كأنه أوكد في الدعوى، وكلاهما مدع، فإن حلف تم له الأخذ، وكان البائع بالخيار أن يحلف ويسقط، أو لا يحلف فيسلمه، كما لو تداعيا في الثمن، وكان البائع هو المدعى عليه أولا؛ لأن البيع قد ثبت ووجب له الأخذ، فهو يحلف ويتم له حتى يحلف صاحبه فيسقط، أو لا يحلف فيعطيه الثمن.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم البيع بنيهما ثابت لازم لهما، والخيار ساقط عنهما، معناه بعد يمين الذي أراد إمضاء البيع منهما أن الخيار كان له دون صاحبه؛ لأنهما إن اجتمعا على رد أو إجازة، فلا تنازع بينهما، ولا موضع لليمين، فإن اختلفا فأراد أحدهما إمضاء البيع، وأراد الآخر رده، فالذي أراد منهما إمضاء البيع مسقط لدعواه الخيار؛ إذ لا يريد الرد به، والذي أراد رد البيع منهما متمسك بدعواه الخيار؛ لأنه يريد الرد به، فرجعت المسألة إلى أنها بمنزلة إذا ادعى أحدهما أن البيع بت، وقال الآخر: بل كان على أن الخيار لي. ومذهب ابن القاسم في ذلك أن القول قول مدعي البت؛ لأن الآخر يريد رد البيع بما يدعي من أن له فيه الخيار، فعليه يأتي قوله في رواية أصبغ هذه.
وروى أبو زيد بعد هذا في هذا الكتاب، ومثله في سماعه، من جامع البيوع: أن البيع ينتقض ولا يقبل دعوى البائع ولا المشتري، ومعناه أيضا بعد يمين الذي أراد الرد منهما أن الخيار كان له دون صاحبه؛ لأنهما إن اجتمعا أيضا على رد أو إجازة، فلا تنازع بينهما، وإن أراد أحدهما الرد، والآخر الإجازة، فقد رجعت المسألة إلى أنها بمنزلة إذا ادعى أحدهما أن البيع كان بيع بت، وقال الآخر: بل كان على أن لي الخيار حسبما بيناه، ومذهب أشهب في ذلك أن القول قول مدعي الخيار، فرواية أبي زيد هذه على قول أشهب في هذه المسألة، ورواية أصبغ وعيسى المتقدمة على قول ابن القاسم فيها، فهي أصلها.
وقول أصبغ: ويحلفان جميعا إنما معناه إذا لم تنقض أيام الخيار، وأراد كل واحد منهما أن يوجب لنفسه الرأي والنظر إلى انقضاء أيام الخيار دون صاحبه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا سقط خيار كل واحد منهما، ولزمه البيع على مذهب ابن القاسم في المسألة التي ذكرنا أنها أصل هذه المسألة، وثبت الخيار لكل واحد منهما على مذهب أشهب فيها. ورواية أبي زيد في هذه المسألة أن البيع ينتقض حسبما بيناه، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت الخيار للحالف منهما دون صاحبه، وكان له الارتياء والنظر إلى انقضاء أيام الخيار.
وأما إذا انقضت أيام الخيار، فإنما يحلف أحدهما، إما الذي يريد إمضاء البيع على رواية أصبغ، وهي رواية عيسى المتقدمة؛ لأن الألف فيها وهم حسبما ذكرناه؛ وإما الذي يريد رده على رواية أبي زيد التي ذكرنا على أصل مذهب أشهب، فإن نكل حلف الآخر على حكم المدعي والمدعى عليه، ولا يتصور أن يحلفا جميعا على حكم المتداعيين، إلا إذا كانت أيام الخيار لم تنقض حسبما بيناه، فهو وجه القول في هذه المسألة، ومعنى قول أصبغ فيها، وقد كان الشيوخ يعترضونه ويقولون: إنه لا وجه له يصح، وإن تنظيره هذه المسألة باختلاف المتبايعين تنظير فاسد، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة باع سلعة، فقال البائع بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار وعارضه المشتري:

من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال عبد الرحمن بن القاسم في رجل باع سلعة، فقال البائع: بعتك وأنا بالخيار، ولست أنت بالخيار، وقال المشتري: اشتريت منك بالخيار، ولست أنت بالخيار، قال: ينتقض البيع، ولا أقبل دعوى البائع ولا المشتري.
قال محمد بن رشد: قوله: ينتقض البيع؛ معناه بعد يمين الذي أراد الرد إذا لم يتفقا على رد ولا إجازة، حسبما ذكرناه قبل هذا في سماع أصبغ، وبينا أنه يأتي على مذهب أشهب. وقوله: ولا يقبل دعوى البائع، ولا المشتري؛ صحيح لأن أيام الخيار إذا كانت لم تنقض، فليس أحدهما أحق من صاحبه بأن يكون القول قوله، والحكم في ذلك أن يحلفا جميعا، ويثبت الخيار لكل واحد منهما على قوله في هذه الرواية، وقياس قول أشهب. وإن كانت قد انقضت، ولم يتفقا على رد ولا إجازة، حلف الذي أراد الرد، ورد على هذه الرواية خلاف رواية أصبغ المتقدمة.

.مسألة بيع الفقع بالقمح:

قال: ولا بأس بالفقع بالقمح.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يريد بالفقع شراب الفقع الذي كان يعمل في الأعراس، وروي عن مالك: أنه كره شربه، إلا أن يكون الذي يعمله مأمونا في دينه. وقال ابن وهب: هو حلال لا بأس به، قد شربه السلف وأجازوه، ورأيت الليث بن سعد يشربه كثيرا ويجيزه، ويقول: ليس من الخليطين في شيء، ولا يدخل تحت النهي.
وقال سحنون وأصبغ: لا بأس به، ومن كرهه إنما كرهه من جهة الطب، لا من جهة العلم، وهو عندي من الحلال البين، وهو شراب أصله من العسل، ويجعل فيه خمير القمح وأفاوه من الطيب، وأجاز بيعه بالقمح يدا بيد، ولم يعتبر بما فيه من خمير القمح؛ لكونه يسيرا فيه، مستهلكا في حيز اللغو والتبع، ويحتمل أن يريد بذلك الذي يتولد في زمان الربيع في أصول الشجر والمواضع الرطبة، ويأكله النساء وبعض الناس نيئا ومشويا، وإن كان أراد ذلك فمعناه أنه لا بأس به بالقمح يدا بيد أو إلى أجل؛ لأنه وإن كان يوكل فأكلا ضعيفا لا يحكم له بحكم الطعام، والأول أظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.
تم كتاب الخيار، والحمد لله.

.كتاب الجعل والإجارة:

.استأجر عاملا من العمال وقد عرف أنه يعمله بيده أو اشرط عليه أنه يعمله بيده:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: حدثني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول فيمن استأجر عاملا من العمال: إما نساجا، وإما خياطا، أو ما يشبه ذلك من الأعمال، وقد عرف أنه يعمله بيده، أو اشرط عليه أنه يعمله بيده، فسأله أن يقدم له أجرة، وهو يقول: لا أعمل في عمله إلى شهر، قال: إذا كان إنما يعمل بيده فيما يعرف منه، أو اشترط ذلك عليه، فلا يصلح له أن يقدم إليه أجرة حتى يبدأ في عمله، فإن بدأ في عمله فليقدم إليه أجرة إن شاء، فإن مات قبل أن يفرغ من عمله أخذ منه بقية رأس ماله على حساب ما عمل وما استأجره عليه، ولم يكن له في مال العامل تمام ذلك العمل استأجره عليه أياما مسماة، أو قاطعه عليه مقاطعة.
قال محمد بن رشد: الإجارة على عمل شيء بعينه، كنسج الغزل وخياطة الثوب تنقسم على قسمين؛ أحدهما: أن يكون العمل مضمونا في ذمة الأجير. والثاني: متعينا في عينه.
فأما إذا كان مضمونا في ذمته، فلا يجوز إلا بتعجيل الأجر أو الشروع في العمل؛ لأنه متى تأخرا جميعا كان الدين بالدين، فلا يجوز إلا تعجيل أحد الطرفين أو تعجيلهما جميعا، وأما إذا كان متعينا في عينه، فيجوز تعجيل الأجر وتأخيره، على أن يشرع في العمل، وإن لم يشرع في العمل إلى أجل لم يجز النقد إلا عند الشروع في العمل.
فإن وقعت الإجارة بتصريح على أن العمل في ذمة الأجير مضمونا عليه مثل أن يقول له: أستأجرك على خياطة هذا الثوب أو نسج هذا الغزل إجارة ثابتة في ذمتك، إن شئت عملته بيدك، وإن شئت استعملته غيرك، وما أشبه ذلك من صريح الألفاظ، أو متعينا في عينه مثل أن يقول له: أستأجرك على أن تخيط لي هذا الثوب، أو تنسج لي هذا الغزل بنفسك، وما أشبه ذلك من صريح الألفاظ؛ كان للمضمون حكم المضمون، وللمعين حكم المعين، على ما وصفناه.
وإن لم يقع على تصريح، وكان اللفظ الذي وقعت به ظاهره المضمون، مثل أن يقول له: أعطيك كذا وكذا على خياطة هذا الثوب، فلا اختلاف في أنه يحمل على المضمون، إلا أن يكون قد عرف منه أنه يعمله بيده، أو يكون إنما قصده بالعمل لرفقه وإحكامه. وأما إن لم يقع على تصريح، وكان اللفظ الذي وقعت به ظاهره التعيين، مثل أن يقول له: أستأجرك على خياطة هذا الثوب، أو على أن تخيطه، ولا يقول: أنت، ففي ذلك قولان؛ أحدهما: أنه محمول على المضمون، إلا أن يعلم أنه يعمله بيده، أو يكون إنما قصد بالعمل لرفقه وإحكامه، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، وحكاه ابن حبيب في الواضحة، عن أصبغ، وقال: إنه مذهب مالك، وهو المشهور في المذهب على الذي يأتي على ما في النذور من المدونة، وعلى ما في سماع يحيى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وعلى ما في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب، والثاني: أنه محمول على ظاهر اللفظ من التعيين، وهو الذي يأتي على ما في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق.
وتنفسخ الإجارة في المعين بموت الأجير، ولا تنفسخ في المضمون بموته، ويكون العمل في ماله، أو ما بقي منه، واختلف هل ينفسخ في الوجهين جميعا بهلاك المتاع المستأجر عليه أم لا؟ فالمشهور أنها تنفسخ على ما يأتي في هذا الكتاب، في رسم المحرم، من هذا السماع، خلاف ما في رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى منه.
وقوله: فإن بدأ في عمله، فليقدم إليه أجره إن شاء، يدل على أنه لا يجب عليه تقديم الأجرة إلا بشرط أو عرف، فإن لم يكن شرط ولا عرف لم يلزمه دفع الأجرة إلا بعد تمام العمل، قاله في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، وذلك بخلاف الأكرية.
وقوله: إنه إذا لم يعمل في عمله إلى شهر، فلا يجوز أن يقدم إليه إجارته يدل على جواز الإجارة، إذا لم يقدم الإجارة، وهو نحو ما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة، من أنه يجوز كراء الراحلة بعينها على أن يركبها إلى شهر إذا لم ينقد، وقد قال ابن حبيب: إن من استأجر أجيرا حرا أو عبدا على أن يشرع في عمله إلى أيام، فلا يجوز من ذلك إلا الأيام القلائل، مثل الجمعة وما لا يطول، فيحتمل أن يكون معنى ذلك مع النقد، فتتفق الأقوال.
وفي قوله: استأجره عليه أياما مسماة، أو قاطعه عليه مقاطعة نظر؛ لأن من استأجر أجيرا على شيء بعينه كخياطة ثوب أو نسج غزل أو طحن قمح وما أشبه ذلك، مما الفراغ منه معلوم؛ فلا يجوز أن يستأجره عليه إلى أجل معلوم خوفا أن ينقضي الأجل قبل تمام العمل، فإن كان الأمر في ذلك مشكلا، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، وإن كان لا إشكال في أن العمل يمكن تمامه قبل انقضاء الأجل، فقد قيل: إن ذلك جائز، وهو ظاهر قوله في هذا اللفظ الواقع هاهنا، وقول ابن القاسم في سماع عيسى بعد هذا، في رسم العرية، ودليل قوله في المدونة في الذي استأجر ثورا على أن يطحن له كل يوم إردبين، فوجده لا يطحن إلا إردبا، أن له أن يرده؛ لأنه جعل له في الإردب الذي طحن ما ينوبه، ولم تنفسخ الإجارة، وهو قول ابن حبيب في الواضحة؛ لأنه أجاز فيها أن يشارط المعلم في تعليم الغلام القرآن على الحدقة، نظرا أو ظاهرا، سميا في ذلك أجلا أو لم يسمياه، وعزاه إلى مالك وحكاه عن أصبغ، والمشهور أن ذلك لا يجوز كذلك، قال: وهذا في هذا السماع، في رسم سلف، ورسم المحرم، وفي أول سماع أشهب، وفي غير ما موضع، ويحتمل أن يريد بقوله: استأجره عليه أياما مسماة، أي استأجره فيه، وأن يريد به أنه استأجره به عليه أياما مسماة، ولا يريد به التعيين له، وإنما يريد أنه ضمنها بعمله الأيام المسماة، فإن أكمله قبل تمام الأيام استعمله في مثله، وبالله التوفيق.

.مسألة تكارى غلمانا يخيطون الثياب في كل شهر بشيء مسمى:

وقال مالك فيمن تكارى غلمانا يخيطون الثياب في كل شهر بشيء مسمى، وهو يقاضي عليها الناس، ويقطعها وهم يخيطون، فربما طرح على إنسان منهم شيئا من الثياب ليخيطها في يوم على إن فرغ منها في يوم أو بعض يوم، فله بقية يومه ذلك، وإن لم يفرغ منها في يومه كان عليه في يوم آخر لا يحسبه في شهوره. قال: إن كان ذلك شيئا يسيرا يوما، وما أشبهه والعمل يعرف أنه إن اجتهد فيه فرغ منه في يوم، وإن فرط لم يفرغ من ذلك، لم أر بذلك بأسا، وإن كثر ذلك، فإني أكرهه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك خفيف لا بأس به في اليسير، ومكروه في الكثير. والكراهية فيه بينة؛ لأنه إذا استأجره في الشهر مثلا بثلاثين درهما، ثم أعطاه ثيابا فقال له: إن خطتها في أقل من عشرة أيام فبقيتها لك، وإن خطتها في أكثر من عشرة أيام لم يحسب له في شهوره ما زاد على العشرة الأيام، كان ذلك غررا بينا؛ لأنه إن خاطها في خمسة أيام استوجب ثلاثين درهما في عمل خمسة وعشرين يوما، وإن خاطها في خمسة عشر يوما لم يستوجب ثلاثين درهما، إلا في خمسة وثلاثين يوما، فعادت أجرته مجهولة؛ إذ لا يدرى في كم من يوم يستوجب الثلاثين درهما.
فإن وقع ذلك وخاطها في أقل من عشرة أيام، لم يلزمه أن يعمل بقيتها للمستأجر؛ لأنه يقول: إنما أتممتها في أقل من عشرة أيام؛ لأني أجهدت نفسي ما لم يكن يلزمني لك في استئجارك إياي، وبكرت في الابتداء، وأخرت في الانتهاء، وكذلك إن خاطها في أكثر من عشرة أيام، لم يلزم المستأجر أن يحسب له تلك الأيام الزائدة على العشرة الأيام؛ لأنه يقول له: فرطت وتوانيت، ولذلك لم تتمها في العشرة الأيام، ولو اجتهدت الاجتهاد الذي كان يلزمك لي في إجارتك لفرغت منها في أقل من عشرة أيام، وكان وجه الحكم في ذلك أن ينظر إلى تلك الأثواب، فإن قال أهل البصر والمعرفة بالعمل: إنها تتم على الاجتهاد المعروف في خمسة أيام؛ لزم الأجير أن يعمل لرب العمل بقيمة العشرة الأيام، وإن قالوا: إنها لا تتم في أقل من عشرة أيام على الاجتهاد المعروف، لم يلزمه أن يعمل له ما بقي منها؛ وكذلك إن عملها في أكثر من عشرة أيام، فقال أهل البصر والمعرفة: إنها لا تتم في أقل مما خاطها فيه على الاجتهاد المعروف، لزم المستأجر أن يحسب له تلك الأيام الزائدة على العشرة الأيام، وإن قالوا: إنها تتم في العشرة الأيام، أو في أقل منها لم يلزمه أن يحسب له تلك الأيام في شهوره.
ولو أعطاه الثياب فقال له: إن خطتها في أقل من عشرة أيام، فبقيتها لك، وإن لم تتمها في عشرة أيام، لم يلزمك شيء، لجرى ذلك على الاختلاف في الرسول يزاد بعد عقد الإجارة على الإسراع في السير والبلوغ إلى البلد في وقت كذا وكذا حسبما يأتي القول فيه في رسم سلف من هذا السماع بعد هذا.
ووجه تخفيف ذلك اليسير اليوم ونحوه الذي يعلم أنه إن اجتهد فيه فرغ منه بين؛ لأنه إن لم يفرغ منه علم أنه فرط، ولم يجتهد الاجتهاد الذي كان يلزمه، فكان من حق المستأجر ألا يحسب له من اليوم الآخر ما أتمه فيه، وإن فرغ قبل تمامه علم أنه كان لإجهاده نفسه، فكان له بقية يومه، وبالله التوفيق.